العصر المظلم النوبي

روبرت موركوت
ترجمة أسامة عبدالرحمن النور


إن الفترة بين نهاية الإدارة الاستعمارية الفرعونية خلال السنوات الأخيرة للأسرة العشرين، والنقوش الأولى المؤرخة للأسرة الخامسة والعشرين في القرن الثامن ق.م. كثيراً ما تعالج بوصفها "عصراً مظلماً"، ويتوازن "الفقدان" الواضح للمعطيات الآثارية عن طريق الزيادة المتوافقة في استخدام اللغة البهيجة Morkot 1991.

اتخذ مفهوم "العصر المظلم" جذوراً له في الدراسات النوبية، لكنه خلافاً للعصور المظلمة المماثلة والمعاصرة في اليونان والشرق الأدنى، لم تتم مناقشته (*). إن فكرة عصر نوبي مظلم كانت محض صدفة نتجت عن اختبار سؤالين مختلفين في إطار كرونولوجيا مصرية مطلقة معتمدة، ومن منظور علم المصريات. ولم يتم استقصاء بعض التساؤلات الأساسية التى تثيرها المعطيات وتفسيراتها. يرجع هذا التناول إلى حقيقة التوجه الذى تبناه العديد من الباحثين بالنسبة لدراسة هذه الفترة؛ بالطبع، قد يتشكك المرء في أن البعض منهم كان من الممكن له أن يتناول المسألة بطريقة جد مغايرة في حالة إذا ما تخلصوا عن ضرورة الالتزام بالكرونولوجيا المعتمدة المشتقة عن علم المصريات. يجوز أن تكون الكرونولوجيا المصرية المعتمدة حالياً صحيحة؛ لكنها إذا كانت كذلك، فإن تساؤلات صعبة تنشأ فيما يتعلق بالأحداث في النوبة خلال الفترة الانتقالية الثالثة.

تمت مناقشة التاريخ النوبي خلال الفترة الانتقالية الثالثة انطلاقاً من موضوعين أساسيين: إما انهيار الإدارة الاستعمارية الفرعونية، أو نهوض مملكة الكرو واحتلالها لمصر وتأسيس الأسرة الخامسة والعشرين هناك. الموضوعان تم النظر إليهما بوصفهما ظاهرتين منفصلتين لا علاقة تربطهما. بالطبع، مناقشة هذه الفترة كانت ذات طابع يتسم بنزعة مركزة مصرية تهتم بتلك الإشكاليات ذات الصلة المباشرة بمصر، واستخدمت أيضاً نوع البينة المصري. بالتالي فإنه افترض وجود نوع من الثغرة أو "العصر المظلم" في الفترات التى تنعدم فيها الصروح الحجرية الضخمة أو النصوص الهيروغليفية. في أحسن الحالات يفترض بأن المنطقة "ارتدت" إلى "مستوى قبلي" Trigger 1976:140. وجهة النظر الأخيرة هذه تطبق بصورة خاصة على الجزء من وادي النيل النوبي بين دنقلا ونبتة، وهى منطقة يفترض بأنها كانت خاضعة للسيطرة المصرية خلال المملكة الحديثة.

آثارياً، "الثغرة" في النوبة السفلى عدت في محتوى أكثر اتساعاً لمنطقة يفترض بأنها كانت خاوية من السكان بدءاً من المملكة الحديثة المتأخرة (طبقاً للبعض من نهاية الأسرة الثامنة عشر) حتى الفترة البطلمية. تركزت المناقشة هنا على تفسير البينة المتوفرة، وكما يعترف آدمز Adams 1976:130ff.، فإن اصطراع أفكار نشب بين علماء الآثار وعلماء اللسانيات. ففي حين أن علماء الآثار الذين عملوا ميدانياً في النوبة السفلى يتفقون ايجابياً (آركل، وشيني، وتريجر) أو ضمنياً (هنتزا ومليت) مع آدمز بشأن وجود تناقص سكاني في النوبة السفلى خلال معظم الألفية الأولى ق.م.، فإنهم منقسمون بشأن أسباب ذلك التناقص. يلتزم كل من آدمز وشيني بوجهة نظر سبق أن طرحها فيرث، بأن المشكلات الايكولوجية نتجت عن الانخفاضات في منسوب النيل. ويأخذ كل من آركل ودسانيه في الاعتبار الدوافع السياسية، العداء بين مصر والنوبة، في حين يرى كاتسنلسون أن التدهور الاقتصادي كان العنصر الرئيس.

وجهة النظر التى تجد قبولاً أوسع هي القائلة بأن جريان النيل المتناقص طيلة فترة المملكة الحديثة نتج عنه تدني المنتوج الزراعي مما دفع بالسكان للهجرة الجماعية في نهاية المطاف؛ المقيمون المصريون والإداريون، والنوبيون المتمصرون، والأمراء المحليون وأتباعهم هاجروا إلى مصر، في حين هاجر بقية السكان الأصليون إلى النوبة العليا Adams 1964:114-115.

طبقاً لأكثر عمليات إعادة التركيب حداثة، تحررت النوبة من السيطرة المصرية بنهاية الأسرة التاسعة عشر أو العشرين. يجادل بأن الإدارة الاستعمارية الفرعونية كانت تمارس صلاحياتها في الفترات الختامية من مدينة طيبة، أو أن الأخيرة أضحت زعيمة للنوبة السفلى المستقلة وإن لفترة قصيرة، قبل "الإخلاء" من السكان. واقترح كل من جويدك Goedicke1972 وتريجر Trigger 1965:113-114 مبدئياً بأن النوبة العليا كانت تحت سلطة أمراء محليين بدءاً من نهاية الأسرة العشرين أو في وقت متزامن مع الأسرة الحادية والعشرين وهى فكرة يمكن أن تكون مضمنة في أعمال كتاب آخرين.

من المعترف به، أن معرفتنا الآثارية للمنطقة الأكثر أهمية بالنسبة لنشوء مملكة كوشية مستقلة، تحديداً إقليم دنقلا-نبتة، لازالت محدودة. لم تسجل مواقع أساسية للملكة الحديثة في المنطقة بين كوة ونبتة، والتي آخذين في الحسبان الصروح المصرية التى يسهل التعرف عليها في الأماكن الأخرى من النوبة، لا بد وأن تكون هامة في حالة وجودها. تشير هذه الحقيقة بقوة إلى عدم وجود بلدات مصرية في هذه المنطقة. يمكن المجادلة بأن البينة في هذه المنطقة قد فقدت؛ إما لكونها دفنت كلياً تحت الرمال أو لأنها دمرت. الصروح الضخمة تلاشت كلياً في هذه المنطقة، مع ذلك، فإن البينة الوثائقية النصية والمصادر المتوفرة الأخرى لا بد أيضاً من أخذها في الحسبان، حتى من الفترتين النبتية والمروية فإن تلك تسجل فقط بنوبس (كرمة)، وكوة، وكورتي كمراكز أساسية في هذه المنطقة. النموذج البديل للاحتلال المصري في المملكة الحديثة لهذه المنطقة يمكن، وفق قراءة المؤلف، أن يثبت خطأه: لكن هذا لا يستبعد استخدامه كما ولا يستبعد ما يترتب عليه من إعادة تركيب لتصوراتنا المسبقة.

ليس مستغرباً، على ضوء إعادة التركيب المعتمدة للتاريخ النوبي في عصر المملكة المصرية الحديثة المتأخرة، أن يكون معظم الكتاب قد عالجوا مسألة ظهور "مملكة الكرو" في منتصف القرن التاسع ق.م. كبداية جديدة، وكظاهرة غير مرتبطة إلى حد بعيد بنهاية الفترة الاستعمارية الفرعونية.

كل المناقشات الخاصة بنهوض مملكة الكرو اعتمدت على مقدمات كرونولوجية تركت تأثيرها على تفسير البينة الآثارية. إن كرونولوجية رايزنر الأصلية انطلقت من تاريخ مثبت جيداً، الأسرة الخامسة والعشرين. بالتالي، المادة المتحصل عليها من أقدم مدافن الكرو والتي وصفت بأنها متوارثة جيل عن جيل، وقدمت تفسيرات مماثلة للمواد غير المتزامنة في المواقع الكوشية الأخرى. العناصر الأخرى التى جرت مناقشتها منطقياً في إطار النوبة في ما بعد الاستعمار، والتي تجد نظائر لها في مصر الفترة الانتقالية الثالثة المعاصرة قد تم تجاهلها بحصافة أو تم تفسيرها بوصفها ظاهرة "نبتية متأخرة". فرضية المؤرخين بأن الإدارة الاستعمارية الفرعونية تم تفكيكها فعلياً، مع انتقال النخب إلى مصر، تثير عدداً من القضايا التى لم يتم حسمها بصورة مرضية.

متبعين لنموذج توزيع سلطة المملكة الحديثة الذى يطرحه المؤلف في رسالته لنيل الدكتوراة (موركوت 1991)، يبدو محتملاً للغاية أنه وبإجلاء الإدارة الاستعمارية الفرعونية، أو انسحابها، في عهد رمسيس الحادي عشر، ملأ الأمراء المحليون فراغ السلطة. نسب عدد من الحكام الحاملين لألقاب "رعمسية جديدة"، وهى ظاهرة ميزت الفترة الانتقالية الثالثة، إلى القرنين الرابع /الثالث ق.م. على أساس بينة هزيلة، و، الأشد إزعاجا هو أن نص الملكة كاريمالا (كاديمالو)، المعترف بانتمائه إلى الفترة ما بعد الأسرة العشرين- ما قبل الأسرة الخامسة والعشرين، أهمل بكل بساطة في كل المناقشات الدائرة حول هذه الفترة من فترات التاريخ النوبي.

النماذج النظرية للأنظمة ما بعد الاستعمارية لم يتم تطبيقها أبداً بالنسبة للنوبة ولم يتم التشكك مطلقاً في هجرة السكان المفترضة. بالطبع، ظل علماء الآثار مقيدين بالمخطط المصري بحيث أن مجمل مفهوم "العصر المظلم" النوبي لم يتم اختباره نقدياً أبداً.

في الوقت الذى يتوجب فيه تجنب المقارنات المباشرة، فإن تناظرات مع القرن العشرين، وما بعد استعمارية أخرى قد تكون غير متصلة بالموضوع هنا، لكنها على الأقل قد تعمل كمؤشرات دالة على الأوضاع التى يمكن أن تنشأ. أكيد أن نهاية الإدارة الاستعمارية الفرعونية كانت أشد تعقيداً من ما تشير إليه الكتابة المعاصرة: إنها لم تتوقف ببساطه وتنمحي.

هذا الإطار النظري للأحداث في النوبة تأسس على نموذج يختلف عن وجهة النظر التقليدية. على أية حال، القول بأن شيئاً ما كان يحدث لا يحل الإشكاليات الخاصة بالكرونولوجيا المطلقة: الأحداث المفترضة يمكن مدها على مساحات زمنية أطول أو أقصر.